الصفحة الرئيسية  أخبار عالميّة

أخبار عالميّة خمسة عشر عاما من حصار غزة‎‎... بقلم د. هشام بواقنة. طبيب نفسي

نشر في  19 جويلية 2022  (12:45)

بقلم د. هشام بواقنة. طبيب نفسي في أحد صناديق المرضى. متطوع في أطباء لحقوق الإنسان، ومشارك في الوفود الطبية التي ترسلها الجمعية إلى قطاع غزة
في غزة، لا أحد يأبه بأعراض ما بعد الصدمة الطفيفة، فهي طبيعية، والجميع يعانون منها.
متى يتوجه الناس لطلب المساعدة؟ حينما يصير الأمر خارجا عن نطاق الطاقة. حينما يتعارض مع القدرة على الأداء، في المنزل، في العائلة. حينما لا يعود ممكنا أن يتوقف البكاء، حينما يصير من شأن أي صوت خافت أن يتسبب في الاستفاقة من النوم.
اسمي هشام، وأنا طبيب نفسي أعمل في صندوق مرضى في الخضيرة، وفي شهر آذار (مارس) دخلت إلى غزّة للمرة الأولى، مع وفد طبي تابع لجمعية أطباء لحقوق الإنسان. كنت الطبيب النفسي الوحيد هناك.
في غزّة هنالك مشفى نفسي وحيد، وقد ذهبت إليه. لقد دهشت حينما رأيت المرضى. قلت لنفسي: يا إلهي! هذه هي أعراض ما بعد الصدمة بحق! إنها تشبه الأعراض الموصوفة في الأدبيات التي يعلمونها للمرء. من النادر رؤية هذه الأعراض في البلاد، لربما أصادف شخصا أشعر أنّه حقّا في مرحلة ما بعد الصدمة، مرة واحدة في الشهر.
ما الذي عنيته حينما قلت "أعراض ما بعد الصدمة بحق"؟ أعني أنك حينما تتذكر الحدث، فإنك تعيشه. يعيشه جسمك، وكأن هنالك الآن انفجار إلى جانبك. وهذا هو الحال هناك في غزة.
المستشفى النفسي في غزة مخصص لمواجهة حالات الذهان الخطيرة حقا. لقد قابلت مرضى يتبولون ليلا، ولا يدركون ما الذي يحصل حولهم. هنالك الكثير من الأطفال الذين يعانون من القلق، والبكاء الذي لا ينتهي، والخوف الشديد من الخروج من المنزل، والحساسية المفرطة للضجيج.
انهال آباؤهم وأمهاتهم عليّ بالأسئلة. لقد كنت الطبيب النفسي الوحيد في الغرفة: ما الذي علي فعله إن استيقظ طفلي في منتصف الليل وبدأ في الصراخ؟ وإذا ما سألني عن سبب الضوضاء، من دون أن تكون هنالك ضوضاء، فما الذي عليّ أن أقوله له؟
لقد فوجئت بأنّ معظم الأطبّاء في مستشفى الأمراض النفسية ليسوا أطبّاء نفسيين في الأصل، فهنالك ثلاثة أطبّاء نفسيين من هذا النوع في غزة، وقد قتل أحدهم في الحرب الأخيرة. أما الباقون فقد تعلّموا بالتجربة، لكنهم لم يخضعوا لتدريب تخصصي في الطب النفسي.
لكي تصير طبيبا نفسيا في البلاد، عليك أن تخضع لتدريب تخصصي يستمر مدة خمسة سنوات. وهذا احتمال غير قائم في غزة، لأن المعرفة غير موجودة، ولأنّه لا يوجد من يمكن له أن يعلمهم. بل إن مدير المستشفى نفسه، ليس طبيبا نفسيا متخصصا.
من المهم لي أن أؤكد: طلبة الطب في غزة موهوبون للغاية. لقد التقيت بهم. إنهم أشخاص شديدو التحمس، وقد استعرضوا أمامي حالات بطريقة رائعة جدا. بعضهم كان في سنته الجامعية الأولى. ولكن لا سبيل أمامهم للخضوع لتدريب تأهيلي في الطب النفسي، لأنه يحظر عليهم الخروج من غزة إلى بيت لحم، أو الأردن، أو القدس، أو إلى البلاد، بالمطلق. إنهم محتجزون في الداخل، بسبب الحصار.
حينما وصلت إلى هناك، ورأيت حالة الأطباء، وتدريبهم الفقير، أدركت أنه سيكون من الأنجع أن أعمل مع الأطباء بدلا من أن أقوم بمعالجة عدد محدود من المرضى.
بل إن الأدوية لا تكفي هناك حتى. فعلى سبيل المثال: هنالك خيار واحد من مضادات الاكتئاب، اثنان على أكثر تقدير، وهي غير ناجحة دائما. أما الأدوية المضادة للذهان: فهنالك خيار واحد فقط، وله آثار جانبية خطيرة للغاية. يؤدي الحصار إلى الانهيار الاقتصادي لكل شيء، وهذا ما يضر بقدرات المستشفيات على شراء الأدوية.
دائما ما أفكر في المرة المقبلة. لقد تعلّمت الكثير هناك، وأنا، حقا.. أشعر للمرة الأولى في حياتي بأنني أسهم في أمر حقّا. الأمر صعب نفسيا، أن أسمع هذه القصص. حينما أعود إلى منزلي، إلى عائلتي، فإنني أفصل تفكيري عن كل هذا. هذا هو خياري الوحيد لكي أتمكن من الصمود. لن أنجح في التنفس في الليل، ولن أتوقف عن التفكير أبدا بالأطفال الذين يصرخون، وآبائهم وأمهاتهم الذين يرتعدون، وكل ما رأيته هناك. أنا أسمع أمورا هناك، في غزة، يمكن للمرء أن يكتب منها قصص رعب. ولذلك، ولكي أتمكن من العودة للعمل، لكي أتمكن من المواصلة، فإنني أجري عملية عزل عاطفي.
على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية تفرض إسرائيل حصارا على قطاع غزة. لقد كان لهذا الحصار عواقب وخيمة على حياة وصحة سكان القطاع. علينا أن نرفض تأطير النقاش حول غزة بوصفه نقاشا أمنيا، منتزعا من السياقات التاريخية، وهو ما يؤدي بنا إلى البحث عن حلول إنسانية لأزمة هي أساسية في أصلها. بناء على إيماننا برسالية المهن الصحية، نحن نرفض تصنيف الحياة إلى "نحن" أي الفئة التي يجب فعل كل ما يمكن من أجل إنقاذها، و "هم"، أي الفئة التي يكون إنقاذ حياتها دائما مشترطا.
----